موريتانيا: الزراعة خارج التاريخ (3-3)

جمعة, 14/08/2020 - 15:11

5- الضعف المزري للنقابات الزراعية

تتبع وزارة الزراعة، سياسة تليدة، تتعمد إضعاف النقابات الزراعية، وتدجينها، بتحويلها إلى "كتائب مداحين لها". وتقرب هذه الوزارة، أو تبعد، النقابات بقدر "وداعتها" أو صراحتها في تناول مشاكل الزراعة.

ولاشك أن النقابة المفضلة لدى الوزارة، هي نقابة رجال الأعمال، التي فرضت عليها الحكومة جنرالا متقاعدا من قيادة "بازب"، لم تكن تربطه بالزراعة أية صلة.

وقد حاولت حكومة عزيز، في سنواتها الأخيرة، فرض هذه النقابة، كمتحدث وحيد باسم القطاع، برغم أن النقابات الأخرى تتمتع بنفس المظلة القانونية، التي تتمتع بها نقابة الجنرال.

6- "تدريع" المسؤولين

يغيب مبدأ المحاسبة، بشكل يكاد يكون كاملا، عن القطاع الزراعي.

فمسؤولو قطاع الزراعة، تحميهم طبقة من الدروع أقوى من دروع دبابة ميركافا الإسرائيلة، المشهود لها بقوة التدريع.

ومنذ التحاقنا بهذا القطاع، قبل نحو 17 عاما، لم نسمع بأي مسؤول تمت محاسبته لأن أداءه انعكس سلبا على الإنتاج الزراعي. إنما يعزل هذا المسؤول لأن مستوى نفوذ حماته، داخل الحكومة، أصبح أضعف من مستوى حماة سلفه، أو لأن وزيرا جديدا على الوزارة، يريد زرع بعض رجاله، أو التحلل من بعض رجال سلفه. بل الغريب أننا رأينا مسؤولين تمت ترقيتهم، بعد ارتكابهم فظائع اقتصادية ألحقت ضررا بالغا بالقطاع.

وتتكفل بتركيب هذه الدروع الحمائية، لمسؤولي إدارة الفشل الزراعي، منظومة صناعة الكذب داخل الوزارة.

وهذه المنظومة، هي المسؤولة عن إقناع وزراء الزراعة بأن نجاحهم في الزراعة على أمواج الأثير، أسهل من نجاحهم في الزراعة على الأرض.

وما لم يتم تفكيك هذه المنظومة، والتخلص من ديناصورات زراعة الكذب، فلا أمل في أي خطط حكومية للنهوض بالزراعة، لأن الزراعة لا يمكن أن تنهض بدون مبدأ المحاسبة.

ولنضرب أمثلة بسيطة على ما سبق:

أ-في حملة الخريف لسنة 2010، تعرض مزارعو الأرز لضربة ثلاثية المصادر، بسبب تراجع المياه عن محاور المياه الرئيسية، لنقص في الصيانة، مما أدى إلى جفاف الكثير من المزارع. كما تعرضوا لهجمات غير عادية من الطيور، سببها التقصير المزري في مكافحتها. هذا بالإضافة إلى النقص الحاد في آليات الحصاد.

وأدت هذه الكارثة، إلى خسارات مدوية للمزارعين، وعجز يكاد يكون شاملا عن تسديد ديونهم للقرض الزراعي.

ولو جرت هذه الكارثة في بلد آخر، تحترم فيه الحكومة نفسها وشعبها، لأدت، على الأقل، إلى مجزرة بين مسؤولي قطاع الزراعة، إن لم تؤد إلى سقوط الحكومة بأكملها.

لكن جهاز صناعة الكذب، تولى تفعيل الدروع، وأعطى صورة مغايرة للحكومة عن أداء الحملة، مفادها أن نتائجها جيدة، وأن كلما في الأمر أن المزارعين محتالون، يتهربون من دفع ديونهم للقرض..!.

ولم أكتشف درجة تضليل الحكومة، إلا عندما بدأت أحدث رئيس الجمهورية عن الكارثة، بعد ذلك بنحو سنتين، وذلك خلال لقاء أجراه بمكتبه مع النقابات الزراعية، فالتفت مذهولا إلى وزير الزراعة بجانبه ليسأله.

لقد كان واضحا أن الرئيس يسمع الخبر لأول مرة. ولقد أثار الرجل شفقتي عليه بسبب درجة "الألينة" التي حشره فيها جهاز صناعة الكذب الزراعي.

ب-قامت الدولة بتنفيذ عدد من الاستصلاحات الزراعية الفاشلة، برغم فواتيرها المضخمة، وهي استصلاحات أدت إلى خسارة للمزارعين المستفيدين منها مثل: بوكمون وانكك، بسبب غياب المعايير الفنية.

وفي احدى هذه المناطق، وهي تنيدر، كانت الأرض أصلا غير صالحة للزراعة، بسبب ملوحتها الشنيعة، وهو الأمر الذي دفع الحكومة إلى التراجع عن استصلاحها، بعد أن صرفت فيها مبالغ كبيرة من أموال دافعي الضرائب.

فلماذا لم يعاقب الفنييون الذين نصحوا الحكومة باستصلاح تنيدر؟! ولماذا لم تتم مساءلة المسؤولين الذين قرروا استصلاحها من دون أية فحوص للتربة؟! ولماذا لم يعاقب المسؤولون الذين استلموا كل تلك الاستصلاحات المعيبة؟!.

منظومة انتاج الكذب هي التي تولت تفعيل دروع الحماية، عن طريق تشغيل معامل انتاج الكذب في الوزارة.

ج-لقد اعترفت الحكومة، قبل سنوات، كما سبق، بوجود نحو 50.000 طن من الأرز "نصف المقشر"، الذي لا يمكن تقديمه حتى للحيوانات، وهو ما تزيد قيمته على 10.000.000.000 أوقية قديمة، برغم أن عقدها يلزم مسؤولي سونمسك ألا يستلموا إلا أرزا مقشرا تقشيرا ممتازا، فهل سمعتم بمسؤولين تمت محاكمتهم، أو حتى إقالتهم، بسبب هذه الجريمة الاقتصادية الكبيرة؟!.

هذه، بإيجاز شديد، أبرز ملامح الوجه الكئيب للسياسات الزراعية لحكوماتنا المتعاقبة، التي ظلت نتائجها تراوح بين: "مكااانك سر..!" و"إلى الوراااء در..!".

كل هذا عن الزراعة المروية، أما عن زراعتنا المطرية، فنحن إلى عصور ما قبل التاريخ أقرب منا إلى هذا العصر، وهو ما تصدينا له في مقال سابق، يستطيع من شاء العودة إليه على جوجل (موريتانيا: الزراعة على طريقة الهنود الحمر).

وفي الختام، يحق للقارئ الكريم أن يتساءل، بعد هذا التحليل المحبط، برغم أمانته: هل من سبيل للنهوض بهذه الزراعة المتخلفة؟ وهل من طريق لتحقيق اكتفاء ذاتي، يحقق السيادة الغذائية، ويوفر العملة الصعبة، ويكافح البطالة، ويقضي على الفقر؟.

ذلك ما نحاول أن نخصص له مقالا مستقلا، يتلمس معالم سياسة زراعية رشيدة، تنفع الناس، وتمكث في الأرض.